المصالحة

المصالحة

لم تكن "سامية" تلك الطفلة الرقيقة الآية في الجمال، تتوقع ما حدث لها الآن، ولا حتى في أقسى الكوابيس رعبا .. فهل حقا طردها أبوها من البيت في الظلام الحالك في ليلة شتاء مخيف، حيث السكون الرهيب الذي لا يقطعه سوى صوت السيول الغامرة، وأصوات الرعد الذي يتعانق مع البرق فينير الكون كله، ولكنه يصعق أي سلام ويلهب الرعب في قلب "سامية"، ولا يبقي إلا دُخَان فتيلة اليأس في قلبها الخائف الخائر.
«هل حقا طردني أبي رغم خضوعي كل هذه السنين لعدوانه؟ هل تركني ورماني ونسي السنوات التي خدمته فيها كأَمَةٍ لا إبنَه واحتملت كل تعذيبه لي؟»
اتخذت "سامية" من يأسها بصيصًا من الشجاعة، على مبدإ: أكثر الناس يأسًا هو أكثرهم شجاعة، وظلت وهي تضع ظهرها وكفتيها على الحائط تتحرك نحو المجهول لتبحث عن مأوى حتى تنتهي تلك الليلة الكئيبة، وعندها تذكرت مقلب قمامة المدينه، فهو ليس ببعيد من بيتها المتواضع الذي طردت منه، وقالت لنفسها:
- «ربما أجد في القمامة حماية وملجأ حتى تنتهي الليلة بسيولها وبروقها ورعودها».
عندما اتخذت "سامية" من مقلب القمامة - الذي كان قد غرق بمياة الأمطار فتحول إلى أقذر الأوحال - ساترًا لتحتمي فيه، وجدت مئات الأيدي المرعبة تخرج من القمامة لتنهال عليها باللكمات واللطمات القاسية، فما كان منها إلا أن تصرخ خوفًا وألمًا إلى أن فقدت الوعي تماما.
أفاقت "سامية" في الصباح - الذي كان أكثر ظلمة وبؤسًا من ليلة الأمس - ومن حولها مئات الأطفال الذين كانوا قد أشبعوها ضربًا طوال الليل، وكانت المفاجأة .. إنها ليست الطفلة الوحيدة في الحياة التي يحدث لها هذا، بل هي واحدة من ملايين الأطفال حول العالم الذين يطلق عليهم: "أطفال الشوارع".
وبعد المعاملة القاسية منهم فرضوا على "سامية" شروطهم، أن تظل تستجدي طوال اليوم، وأن تعطي كل ما تحصل عليه من أموال وعطايا للعم "سلاّب" - زعيمهم - مقابل أن يسمح لها أن تأكل شيئًا من القمامة في المساء، وإلا قتلوها. ولقد رأت "سامية" في العم "سلاّب" صورة طبق الأصل من أبيها "شداد"، وأيقنت أنهما عميلان للسيد "أسد" الذي كان يرأس أبيها.
وفي ذات يوم كانت "سامية" بملابسها الرثة تطرق باب أجمل قصر في المدينة كلها، وكان مكتوب عليه: منزل الدكتور "أنور". وعندما دقت الجرس فتح لها إنسان غاية في الجمال، ويتوهج منه الفرح والحنان والإحسان. وتأكدت "سامية" أنه بالطبع الدكتور "أنور" نفسه، وتمتمت في داخلها قائلة:
«حقا إنه اسم على مُسمىً؛ فهو طبيب يشفي من ينظر إليه، وهو أنور وأجمل من كل من رأيتهم .. آه .. يا للفرق الشاسع بينه وبين "سلاّب" وأبي "شداد" والريس "أسد"».
شعرت سامية من نظرات الحنان التي غمرها بها الدكتور "أنور" أنه فهم ما تمتمت به دون أن تقوله، وسألها:
«ماذا تريدين ياطفلتي العزيزة؟». فأجابت:
«حسنة قليلة يا سيدي». فبادرها الدكتور "أنور" وقال لها:
«هل تدخلين البيت وتتناولي معنا طعام الأفطار؟ إن ابنتي "فادية" ستحبك جدًا».
صمتت سامية من المفاجأة ولكن الدكتور "أنور" أخذ بيدها وأدخلها. وغمروها في القصر بالمحبة، وقدمت لها "فادية" ثيابًا جديدة رفضت "سامية" أن تلبسها لشعورها بعدم الاستحقاق، وسالت "سامية" الدكتور "أنور":
«لماذا فعلت معي هذا؟ لماذا تحبني؟» أجابها:
«إن المحبة هي طبيعتي، والمحبة الحقيقية يا ابنتي دائمًا ما تكون غير سببية، وكنت دائمًا أتمني أن يكون لدي ابن أو ابنه أخرى تشبه "فادية" ابنتي الوحيدة، وعندما رأيتك وجدت فيك هذه الابنة. فمن فضلك اشعري أنك في بيتك». ثم تركهم ودخل من أحد الأبواب.
لمحت "سامية" ميدالية كبيرة من الذهب الخالص المرصع بالمجوهرات مكتوب عليها اسم الدكتور "أنور" ومكتوب أيضا: "لتكريمه ولمجده"، فنسيت "سامية" كل المعروف، وخططت كيف تسرق الميدالية وتهرب.
وبينما "فادية" تجهز لها بعض الأطعمة خطفت "سامية" الميدالية الكبيرة ووضعتها في حقيبتها التي تضع فيها ما تشحذه، وأسرعت تجري نحو باب القصر، ولكن - ويا للصدمة - لقد كان الدكتور "أنور" عند باب القصر يطلب شراء هدايا "لسامية"، ولما أدركت "سامية" أن الدكتور "أنور" رأى الحقيبة التي كانت تظهر منها الميدالية صرخت، وظلت تجري وتجري وهي تظن أن الدكتور "أنور" يلاحقها، وعند وصولها إلى مقلب القمامة حيث دفنت الحقيبة والميدالية، نظرت "سامية" خلفها وهي تلهث، وأدركت أن الدكتور "أنور" لم يكن يطاردها أو يجري خلفها.
نشب الحزن والهوان واحتقار النفس مخالبه في قلب "سامية"، ليس فقط لأنها أضاعت فرصة عمرها في أن تعيش في قصر الدكتور "أنور"، ولكن كيف تُهين وتسرق من أحبها فضلا وأحسن إليها، وعندها تذكرت "فادية"، وما أظهرته لها من صداقة وحب فائض وطاهر، فانفجرت "سامية" في بكاء وصراخ هستيري، حتى لم تبق لها قوة على البكاء، وقررت الانتحار، فأخذت من الزجاج المكسور في القمامة وظلت تجرح نفسها، ولكن فجأة رأت عربة فاخرة تقف بجوارها، ونزل منها الدكتور "أنور" الذي ما إن اقترب إليها حتى أسرعت في الهروب، ولكن هول المفاجأة جعل رجلاها تتسمران .. فما كان من الدكتور "أنور" إلا أنه حملها وأدخلها العربة وقال لها:
«لاتخافي يا ابنتي، أنا عرفت كل الحقيقة»،
ولم تنطق "سامية" ببنت شفة، فماذا عرف سوى خيانتها وسرقتها؟ ولكن ها هي تصل للقصر، وتقع "فادية" في حضنها، و"سامية" لا تدري ولا تستوعب ما يحدث، وعندما ذهب الدكتور "أنور" ليحضر أحلى الثياب والهدايا "لسامية"، انحنت "فادية" وهمست في أذن "سامية"، وشرحت لها ما حدث .. قالت "فادية":
«هل لاحظت يا "سامية" كيف أن أبي أحبك، وكنت أنت استجابة لرغبته أن تكون لديه بنت أو ابن يشبهني؟ ولما أخذتِ الميدالية رأيتُ الآلام التي يتعرض لها أبي، فقررتُ أن أكون اسمًا على مسمىً لاجل أبي، ولأني أنا أيضا أحببتك قلت لأبي: إني أنا - وليست "سامية" - نعم .. أنا أخذت الميدالية ووضعتها في حقيبة سامية، وكنت أنوي أن أعبث بها، أما "سامية" فبريئة، ولأني حملت التهمة بدلاً عنك، عدتي إلينا يا أختي الحبيبة "سامية"، وعادت الفرحة تغمر أبي، وتحققت رغبته القديمة أن تكون له ابنة شبيهة بي. هيا يا "سامية" هيا اغتسلي والبسي الفستان الملوكي الذي أحضره لك أبي، واغفري لنفسك كما غفرنا لك، وأشعِري أبي دائما أنك ابنته بالشركة المستمرة معه».
صديقي القاريء العزيز .. صديقتي القارئة العزيزة، أدرك أنك عرفت مغزى تلك القصة دون تعليق؛ "فشداد" صورة للشيطان في قسوته وخيانته حتى لأولاده، كما قال الرب يسوع عنه: {أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ} (يوحنا8: 44)
و"سلاّب" صورة له أيضًا في أنه السارق كما قال الرب: {اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ} (يوحنا10: 10). فَأَجَابَ يَسُوعُ: {إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ} (لوقا10: 30).
والريس "أسد" صورة له في بطشه وابتلاعه: {اُصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ} (1بطرس5: 8).
أما "سامية" وأطفال الشوارع فصورة لنا نحن ضحايا إبليس كما نرى ذلك في الابن الذي ضل: {وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: «يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ»} (لوقا15: 16-19)
أما الدكتور "أنور" فلا بد أنك أدركت أنه صورة لأبينا السماوي وطبيبنا العظيم المكتوب عنه: {لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ. كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ} (يعقوب1: 16-17). {فَمَرَضًا مَا مِمَّا وَضَعْتُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ لاَ أَضَعُ عَلَيْكَ. فَإِنِّي أَنَا الرَّبُّ شَافِيكَ} (خروج15: 26).
أما ميدالية المجد فهي رمز لما سلبناه من مجد الله بخطايانا حيث مكتوب: {إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ} (رو3: 23). فالله خلقنا لمجده: {... بِكُلِّ مَنْ دُعِيَ بِاسْمِي، وَلِمَجْدِي خَلَقْتُهُ وَجَبَلْتُهُ وَصَنَعْتُهُ} (إشعياء43: 7).
ولكن تبقى "فادية" التي نرى فيها الفداء، فقبلت أن تعتبر نفسها السارقة لكي تجلب التبرير "لسامية" كما هو مكتوب: {الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ} (أفسس1: 7).
اسمع الرب يسوع المسيح الفادي العجيب يصرخ على الصليب قائلا: {أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ (المجد المسلوب)} (مزمور69: 4). وبهذا تتحقق خطة الله أبينا - أَبِي الأَنْوَارِ: {لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. والَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. واَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا} (رومية8: 29-30). فبنداء {الله محبة} أدعوك ولأجل فداء المسيح أرجوك! أنك نظير "سامية" تأتي إليه الآن معي مصليا:
صلاة :
يا أبانا السماوي، يا أبا الأنوار:
آتي إليك من قمامة العالم وخرنوب المرار،
أشكرك لأجل ابنك الوحيد المسيح البار،
الذي بذلته لأجلي ليحتمل عني الخطية والعار،
اقبلني وسامحني أنا أشر الأشرار،
لا لتنقذني فقط من الجحيم والنار،
بل لأكون مشابها لابنك فحسب،
وأحيا حياة الأبرار والأحرار ..
آمين.
زكريا استاورو
 

التعليقـــات


بحث الموقع
Loading
اكثر 5 قصص فراءة
اكثر 5 قصص مشاهدة
جديد القصص