خطاب باليد اليسرى
ابني الحبيب عماد، أرسل إليك خطابي هذا، مُرفق به الحوالة البريدية على مكتب بريد بورسعيد، وما زلت أصلي لأجلك لكي تُسلم حياتك للمسيح، فيكون رفيقك في الغربة ويحفظك من كل الشرور ويمنحك النجاح الروحي أولاً وفي الجامعة أيضًا .. كل الأسرة بخير ويهدونك السلام. أبوك المُشتاق إليك،،،
كانت هذه صورة الخطاب الذي تعّود الأب الذي يعمل على منشار كهربائي لنشر الأخشاب في القرية، أن يرسله كل شهر إلى ابنه الأكبر، الطالب بالفرقة الثانية بإحدى الكليات ببورسعيد.
وكثيرًا ما ظل الوالد حتى الفجر يُصلي لأجل "عماد"، ولا سيما عندما تصله الأخبار في القرية أن ابنه في بورسعيد قد أدمن التدخين، وتعود على ارتياد السينما، وقضاء الليالي مع الأصدقاء الأشرار.
وفي الواقع كان حُب الأب "لعماد" ورغبته في أن يتمتع بجمال المسيح ويحصل على الخلاص الأبدي من عذاب الجحيم، هو الدافع وراء صلاة الوالد، أكثر من خوفه من كثرة الأمول التي كان يبذرها عماد بعيش مسرف رغم حاجة الأسرة الماسَّة.
أما "عماد" فكان يقابل كل خطاب يصله من أبيه، وكل نبذة أو كلمة بشارة تأتيه من زميله المسيحي المؤمن، بالتذمر الشديد ويقول:
- «لو كان حظي سعيدًا ووُلدت هنا ابنًا لأحد أثرياء بورسعيد، هل كنتم ستعظونني بنفس الكلام الذي لا يفيد؟ .. التدخين، السينما، القلب الجديد .. السهر .. الحرية والعبيد .. ما هذا؟ .. أنا حر، ومن حقي أن أعيش .. صحيح أنا لا أمتلك "مرسيدس" كزملائي وزميلاتي هنا .. أقصد ولا حتى عجلة، لكن يجب أن أعيش. ما ذنبي أني وُلدت من أسرة فقيرة ورُبيت في قرية صغيرة؟ .. هل حُكم عليّ بالحياة المريرة؟ يا لها من دنيا حقيرة!».
وهكذا كان "عماد" يفسر كل كلمة تبشير تصل إليه، بأنها تعيير وتحقير، تطلب منه التغيير. هل كل هذا لأنه لا يمتلك ثمن تذاكر السينما أو السجائر؟ آه يا له من زمن جائر!! ..
حتى كان يوم الأحد 5 مارس 1995، عندما استلم الخطاب الشهري كعادته، ولكن ما أن وقعت عيناه على المظروف، ورأى الاسم والعنوان المكتوبين .. حتى اتسعت عيناه جدًا من هول المفاجأة، وشعر بالدنيا تدور من حوله، أسرع من النحلة الخشبية التي كان يلعب بها في صباه .. صرخ في اضطراب .. الخط خط أبي .. ولكن أبي يجيد الكتابة بخط جميل، أما خطه اليوم فكأنه خط طفل في السنة الأولى الابتدائية. حتمًا حدث شيئٌ ما .. ولا بد أن يكون شيء سيئ!!
جلس "عماد" بصعوبة على سريره الصغير في حجرته، وفتح الخطاب سريعًا، وكان يشعر بصوت نبضات قلبه أعلى من صوت قطار الدرجة الثالثة الذي يركبه دائمًا، وأسرع من كل سرعة مركبات الفضاء التي درس عنها في الجامعة.
وعكس ما كان يعمل في كل مرة، إذ كانت عيناه تقعان أولاً على عدد الجنيهات في الحوالة .. قرأ خطاب الأب بكل استغراب وارتياب .. فها هو نفس الخط الطفولي المتعرج كأمواج الشاطئ في بورسعيد!!
«لا تضطرب يا ابني لأجل سوء خطي هذه المرة لأني أكتب إليك خطابي باليد اليسرى، فلقد أصيبت يدي اليمنى في المنشار، واضطر الطبيب لأن يبتر السبابة، ولكني بخير أشكر الله، وأكتب إليك بيدي اليسرى ليس ألمًا من يدي الجريحة، ولكن حُبًّا لك، ورجائي أن تقبل كلامي هذه المرة بأن تعطي حياتك للمسيح، حتى ولو كان خطابي بهذا الخط السيئ وبيدي اليسرى. الجميع بخير ويهدونك السلام. أبوك المشتاق!»
انهار "عماد" في تأثر رهيب، وجرت دموعه ساخنة كاللهيب، وصار يبكي بصوت مرتفع في حجرته. فهذه المرة كانت المحبة .. التي لا تسقط أبدًا ..
- «لقد جُرحت يد أبي اليمنى، ولكن ما زال باليد الأخرى يرسل لي مع الحوالة .. نفس بشارة المحبة .. الرب يسوع المسيح .. »
وبينما كان عماد في بكائه يتخيل يد أبيه اليمنى الجريحة، إذ به يشعر بيدين مثقوبتين حانيتين تمسحان دموعه .. رآهما بالإيمان مسمرتان، ولكن له مفتوحتان .. فارتمى في الحضن الدافئ في أسمى وأجمل وأرقى لحظات عمره، وهو يسند رأسه التَّعِب على هذا الجنب الذي فُتح له، وتردد في داخله ولأول مرة منذ سنوات، آيات كان قد تعلّمها في مدرسة الأحد بقريته {وهو مجروح لأجل معاصينا} (إشعياء 5:53)، {ثقبوا يديّ ورجليّ} (مز 16:22).
ومرة أخرى كانت هاتان اليدان المثقوبتان تشددانه وتساعداه وهو يمزق كل الصور الخليعة ويحرقها مع كل الخطابات والمطبوعات والعلاقات والسجائر وكل ما يربطه بالعيشة القديمة مع إبليس ..
نعم! إنها الحرية! فلأول مرة وبعد أن فُك من أغلال الخطية التي ربطته طوال السنين، يفهم معنى الآية {فإن حرركم الابن فبالحقيقية تكونون أحرارًا} (يوحنا 36:8).
صديقي .. صديقتي، هذه قصة حقيقية. فهل تأتي مع "عماد" ومعي إلى الصليب؟ فالصليب هو المكان الوحيد الذي يمكنك أن تعرف وتختبر فيه:
1. محبة الله: (يوحنا 16:3، 13:15، رومية 32:8، أفسس 25:5، 1 يوحنا 8:4-10، 16:3).
2. صدق الله: (متى 53:26، لوقا 25:24-27).
3. عدل الله: (مزمور 10:58، رومية 26:3).
4. قداسة الله: (مزمور 1:22،3، إشعياء 3:6-8).
5. مجد الله: (يوحنا 31:13، مزمور 4:69).
6. حكمة الله: (1 كورنثوس 24:1، 7:2-10).
7. قوة الله: (1 كورنثوس 18:1).
اليدان المثقوبتان ما زالتا ترحبان بك .. فهل تأتي وأنت تقرأ هذه الكلمات وتصلي معي؟
صلاة:
يا أيها الجريح لأجل شري الصريح ..
استلمني أيها المسيح يا صاحب الحُب الصحيح ..
فمن غيرك حملي يزيح؟ أمين.
زكريا استاورو