الصليب في قلب الانجيل
{لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد
لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية}
بينما كان المبشر الشهير "د. ل. مودي" يعظ في مدينة "دبلن" بأيرلندا عام 1867م، طلب منه شاب في السابعة عشر من عمره أن يرافقه إلى أمريكا لأنه كان يشعر بتثقل روحي أن يُبشر هناك، فلم يعطه "مودي" جوابًا نظرًا لصغر سنه وكونه غير معروف لديه. وعندما عاد "مودي" إلى "شيكاجو"، تلقى خطابًا من نفس الشاب يخبره فيه أنه وصل إلى "نيويورك" وسيكون في "شيكاجو" يوم الخميس.
لم يعرف مودي كيف يتصرف مع هذا الشاب، ولكنه أخبر الإخوة المدبرين في الكنيسة أن شابًا إنجليزيًا سيحضر يومي الخميس والجمعة - أثناء سفر مودي في هذين اليومين - وليعطهم الرب حكمة في التصرف معه.
ولما عاد "مودي" يوم السبت، أخبرته زوجته أن هذا الشاب واسمه "هنري مورهاوس"، تكلم في اليومين السابقين عن محبة الله في الصليب من خلال الآية الشهيرة يوحنا 16:3 {لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية}. وأن الإخوة في تعزية روحية عميقة بسبب كلام الرب من خلال هذا الشاب.
ورأى "مودي" أن الآلاف يرجعون من حيثما أتوا، لأنهم لم يجدوا مكانًا لقدم، لسماع هذا الشاب الذي استمر طوال الأسبوع يجاهر بالبشارة السارة عن محبة الله من خلال هذه الآية العظيمة (يو 16:3).
وقد كتب "مودي" في مذكراته عن هذا الأسبوع قائلاً:
- «لم أستطع أن أمنع الدموع وهي تنهمر من عينيّ، وأنا أرى نورًا جديدًا وأنا أسمع "هنري مورهاوس" وهو يتحدث عن محبة الله التي تجسمت في صليب المسيح من خلال الكتاب المقدس، ولا سيما هذه الآية (يوحنا 16:3)»
التهم حريق مبنى الكنيسة التي كان "مودي" يخدم فيها "بشيكاجو"، فأقاموا مبنىً مؤقتًا لحين بناء مبنى جديد للكنيسة. ولما عاد "هنري مورهاوس" من أوربا مرة أخرى، وقف على المنبر في "شيكاجو" في هذا المبنى الجديد، وقال:
- «يا إخوتي، رغم أن المبنى الأول احترق، فإن الآية القديمة لم تحترق، لأنها تتحدث عن الرب يسوع الذي احترق لأجلنا في الصليب مُظهرًا محبة الله لنا، لهذا نقرأ بإرشاد الروح القدس (يوحنا 16:3)»!
وظل "مورهاوس" يتحدث طوال حياته عن محبة الله في صليب المسيح، حتى أنه في آخر لحظة من حياته وقبل ذهابه إلى السماء، نظر إلى ابنه الكسيح وقال له:
- «يا ابني، الله محبة، الرب يسوع قد صُلب ...». ثم رقد.
ولقد تحدثت الصحف والمجلات طويلاً عن رجل شرير من عُمال مناجم الفحم يُدعى "إيك ميللر"، لم يكن قد دخل اجتماعًا روحيًا طوال حياته، وكان قد اشتهر بشروره وعنفه وغلاظة قلبه وسوء أخلاقه وعبوديته للمكيفات. وأثناء عودته من عمله في منجم الفحم في إحدى الليالي، وجد رجلاه تقودانه إلى المكان الذي كان يعظ فيه "هنري مورهاوس". جلس "ميللر" في الصف الأمامي، وعندما رآه الإخوة ظلوا يصلون في قلوبهم ضارعين إلى الله لكي يرشد "مورهاوس"، فلا يتحدث في هذا اليوم عن صليب المسيح ومحبة الله كعادته، بل يتحدث وبقوة عن عذابات الجحيم وويلاته، لعل ذلك يُذيب قلب "ميللر"، أو على الأقل ليخاف فلا يصنع فوضى أو يفض الاجتماع بالقوة والعربدة. لكن خاب ظن الإخوة عندما تحدث "هنري مورهاوس" عن محبة المسيح أيضًا، وكيف أنه كان النائب والبديل والفادي وهو يتحمل لأجلنا كل أنواع الآلام الجسدية والنفسية والكفارية على الصليب. وبينما كان إيك "ميللر" يستمع لقصة الصليب بكل إصغاء، كان الإخوة يشعرون بالأسى والأسف وهو يقولون في داخلهم:
- «ضاعت الفرصة، يا ليته تحدّث عن الجحيم، فربما كان "إيك" الشرير تأثّر».
بعد نهاية الاجتماع عاد "إيك ميللر" إلى بيته، وطوال الطريق، ولأول مرة طوال عُمره الطويل، كانت الدموع تجري من عينيه بغزارة، وكان يتمتم بكلمة واحدة، كان يمكن لمن يسير بجواره أن يسمعها، إذ كان يقول:
- «صلبوه .. صلبوه لأجلي، صلبوه .. صلبوه».
وعندما قرع الباب وفتحت له زوجته، التي كثيرًا ما ضربها وعذّبها، كانت دهشتها لا تُوصف، فلأول مرة في حياتها ترى زوجها يبكي، فأدركت أن أمرًا خطيرًا جدًا قد حدث. ماذا حدث هل انهار منجم الفحم؟ كلا .. هل لم تُشرق الشمس في النهار؟ كلا .. ماذا حدث إذًا؟ أجابها وهو يريد أن يخفي الدموع وهي تنهار أنهارًا غزار:
- «لقد صلبوه .. صلبوه».
جمع إيك "ميللر" أسرته، واعتذر لهم على كل ما فعله معهم في الماضي، وقال لهم:
- «هيا نصلي» .. فأجابوه:
- «لا نعرف كيف نصلي» .. قال لهم:
- «إذًا دعوني أصلي»،
ولكنه لم يعرف إلا أن يقول العبارة التي علمته إياها أمه وهو طفل صغير:
- «يا ربي يسوع اللطيف، انظر إلى ولد صغير نظيري، وسامحني».
ولكنه بعد هذه العبارة، رُسم المصلوب أمام عينيه، فانسابت منه العبارات وهو يصف محبة الله وجروح المصلوب لأجله، ويعترف أمام أسرته بكل آثامه وماضيه، وبين كل عبارة وعبارة كان يكرر الكلمة التي أذابت قلبه: «لقد صلبوه» .. وصار "ميللر" مسيحيًا حقيقيًا، وشهادة مُنيرة لمحبة الله في الصليب.
قارئي العزيز، إن هذه القصة الواقعية تذكرني بتلك اللوحة الفنية الرائعة التي رسمها الفنان الألماني الشهير "رامبرانت"، إذ أبدع في تصوير الصليب، وتصور الرب يسوع وهو يقاسي الآلام الرهيبة، وتحت الصليب رسم مجموعة من مختلف فئات البشر وهم جميعًا يشاركون في جريمة الصلب، وفي طرف الصورة رسم شبح رجل يختفي خلف الظلال، وتبدو في ملامح هذا الرجل صورة الفنان "رامبرانت" نفسه، وهو بذلك أراد أن يقول لكل من يرى اللوحة البديعة أنه هو شخصيًا شارك في صلب المسيح. وكأنه يقول مع "إيك ميللر" «لأجلي .. صلبوه، بل أنا قد صلبته بخطاياي».
صديقي .. صديقتي، إن الصليب هو بحق مكاني ومكانك، وقد ارتضى المسيح أن يعتليه لأجلي ولأجلك. فهل تأتي إلى هذا الإله المحب الذي أحبك أنت شخصيًا حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا تهلك بل تكون لك الحياة الأبدية؟
مع أن الموت حقيقة، والنار الأبدية أكيدة، لكني وبنداء محبة الله لك وجروح المسيح ودماه التي سالت لأجلك، أدعوك الآن، وأنت تقرأ هذه الكلمات، أن تأتيَ بالإيمان إلى الصليب، فتختبر ما اختبره السائح المسيحي الذي كتب عنه "يوحنا بنيان" في كتابه المعروف "سياحة المسيحي" عندما وَقَعَ الحِمل الذي كان قد أعيا كاهله، وقع تلقائيًا عن كتفه في الحال عندما جاء إلى الصليب والتفت بإيمان إلى للمصلوب. عندئذٍ ستهتف معي ومع ملايين المسيحيين الحقيقيين ما بقي من العُمر وفي الأبدية السعيدة الطويلة أيضًا:
في الصليب في الصليب في حياتي وكذا
من قضى فوق الصليب سنراهُ عن قريب
راحتي بل فخري لأبد الدهر
ذاك كُل القصد آتيـًا بالمجد
زكريا استاورو