سلاح الافراح

  سلاح الافراح

كان "وديع" طالب المدرسة العسكرية، يجوب شوارع القاهرة بلا هدىً, فهو لم يكن يعلم حتى ماذا يريد أن يفعل! فهذه إجازة أخري من المدرسة, فهل يسافر إلي قريته، تلك القرية الخضراء الواسعة في صعيد مصر؟ ولكن ماذا يفعل في القرية؟
«مللت هدوء وسكون القرية» قالها وديع لنفسه وهو يتأوه بصوت تكاد تسمعه. وكان يردد:
«كرهت الحياة، فكل شيء أصبح مكررًا. لا شيء أصبح له قيمة أو لذة بالنسبة لي، حتى السينما والمسرح مللت منهما, كنت أحضر أكثر من حفلة في اليوم الواحد، ولكن ما لي لم أعد أرغب في الذهاب إليهما؟ حتى الأصدقاء والأقارب مللت الحديث معهم.
وعندها سالت دموع الغربة والوحدة علي خدي وديع بغزارة، ولكنه جاهد أن يحتوي ما يشعر به من فراغ، ووضع في قلبه أن يقضي هذه الإجازة مثل سابقاتها، علي أن يخطط للإجازة القادمة. وطوال الأسبوع لم يشعر بأية رغبة في أي شيء، فقرر أن يبقي في المدرسة العسكرية ولا ينزل إجازته.
غادر الجميع المدرسة في بهجة وابتهال العطلة، بعد التدريبات العسكرية الشاقة، إلا "وديع". وكان البعض مذهولاً من أن "وديع" الذي كان دائما يشع ويشيع الفرحة والبهجة بينهم، ظل علي سريره والوجوم يخيم عليه في سكوت شديد، والأمر الذي جعلهم أكثر اندهاشًا هو عدم نزوله الإجازة اختياريًا وليس كعقوبة أو تكدير.
فرغت المدرسة من الجميع عدا زميل "وديع" الذي كان طالب "نوبتجي" لهذه العطلة، والذي ورغم كونه غير مسيحي، لكن كانت تربطه "بوديع" زمالة وحب شديدين, فسأل وديعَ باندهاش:
«لماذا لا تنزل إجازتك؟». أجابه وديع باقتضاب:
«ليست لديَّ رغبة في أي شيء. كرهت السفر, كرهت الفسحة, كرهت كل شيء, حتى كرهت أن أتحدث مع أي أحد, لهذا فضلت أن أبقي هنا وحدي»,
وعندها طلب زميل "وديع" منه أن يأخذ "البوبتجية" بدلاً منه ليتمكن هو من النزول, فرحب "وديع" بذلك. وبينما كان زميله يغير ملابسه بسرعة وفرحة مذهلة، وقع من جيب زميل "وديع" كتيب, وكانت دهشة "وديع" غامرة إذ أن الكتيب الذي وقع من جيب زميله كان مكتوب عليه "بشارة يوحنا", سأل "وديع" زميله، الذي التقط الكتاب سريعًا وأعاده إلي جيبه:
«مالك وهذا الإنجيل؟». أجابه الزميل:
«إنه هدية ثمينة من صديق غالٍ جدًا. ولقد وعدته برهانًا لحبي له أن أحتفظ به دائما في جيبي». قال "وديع" لزميله:
«هل تسمح أن تُعِيرني هذا الإنجيل فقط في يومي الإجازة، وسأعيده لك بمجرد عودتك. فربما أجد فيه ما يسليني في وحدتي في هذه الصحراء الجرداء؟». قال الزميل:
«بكل سرور، بشرط أن تعيده لي بمجرد عودتي».
كان ذلك في إحدى ليالي الربيع في أوائل أبريل (نيسان) من عام 1941م، وبينما كان الليل يسدل ظلامه في المعسكر، كان "وديع" يلتهم الكلام في إنجيل يوحنا التهامًا، وبالرغم من أنه كان قد نشأ في عائلة مسيحية حقيقية، وكثيرا ما سمع آيات من الإنجيل، إلا أنه في تلك الليلة وهو يقرأ، كان وكأنه يقرأ ويسمع الإنجيل لأول مرة. مرت الساعات كلحظات قليلة لم يشعر بها "وديع"، وكان قد وصل في قراءته حتى الأصحاح الثامن عشر والتاسع عشر، وعندها صارت أحداث صلب المسيح التي كان يقرؤها وكأنها حقيقة مصورة أمام عينيه, أه .. لماذا يجلدونه؟ لماذا يلطمونه؟ لماذا يدقون المسامير بهذه القسوة في يديه ورجليه؟ آه .. لماذا ..؟ ولماذا ..؟
وفي سكون الليل الرهيب دوى صوت قوي جدًا أقوي من صوت كل المدافع والقنابل والصواريخ التي كان "وديع" يتدرب عليها, صوت غَمَرَ كل كِيانه، صوت كان يجيب عن الألْف لماذا ولماذا التي كانت تدور في ذهن "وديع". كان الصوت الداخلي يجيب بكلمة واحدة، وهي: لأجلك. لأجلك. «لأجلي أنا! أنا الخاطئ». وعندها انفجر "وديع" في بكاء شديد عند المصلوب يقبل قدميه المثقوبتين، ويعترف بكل آثامه وخطاياه، ويسلم كل كِيانه للرب يسوع الذي مات لأجله، وشعر وكأن جروح المسيح الغائرة في كل جسمه من الجَلد والصلب، تغسل كل قذارة روحية داخله. وعندما أشرق الصباح كان فجر جديد قد بدأ يشرق في حياة "وديع". واختبر المكتوب, {إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي لْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. لأَشْيَاءُ لْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هوذا لْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا} (2كو17:5) وعرف الفرح المفقود {الَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ، نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ لنُّفُوسِ} (1بط8:1و9). وصار خلاص نفوس الآخرين غايته. وأخذ "وديع" إذنًا عسكريًا لعقد فرص للصلاة مع الجنود والطلبة المسيحيين. وكان في كل إجازة يحضر أكبر قدر من الاجتماعات الروحية.
وظل يقرأ أكثر من ثلاثين أصحاح من الكتاب المقدس كل يوم. ورغم صغر سنه الجسدي - والروحي أيضا - وقتها، إلا أنه كان يعظ ويتأمل في هذه الاجتماعات، ثم يدعي للكرازة في اجتماعات أخري، حتى دعاة الرب للتفرغ الكامل لخدمته عام 1957م. وإن كان قد ترك العمل في الأسلحة العسكرية، إلا أن شَعاره كان دائما أن الكتاب المقدس كان ومازال وسيظل هو أعظم سلاح للأفراح. ومن وقتها ربح خادم الرب الحبيب "وديع جندي" الآلاف للمسيح.
هل اختبرتَ هذا التغيير الحقيقي والأفراح السماوية المجيدة؟
صديقي .. صديقتي، إن كنت لم تختبر هذا الفرح والتغيير، فأنا أدعوك لقراءة الكتاب المقدس, كلمة الله. كما قال القديس أوغسطينوس:
- «هناك رجاء لأشر خاطئ إن هو قرأ الكتاب المقدس ..». وأدعوك أن تصلي معي الآن:
صلاة :
أيها الرب يسوع الوديع
يا من لأجلي احتملت الألم المريع,
حاولتُ الخلاص بذاتي، ولا أستطيع
ارحمني وخلصني لأتمتع دواما بجمالك البديع
آمين
زكريا استاورو
 

التعليقـــات


بحث الموقع
Loading
اكثر 5 قصص فراءة
اكثر 5 قصص مشاهدة
جديد القصص