ويكون لكم الدم علامة

بينما كانت الحرب العالمية تشتد رَحاها وتضطرم ألسنة لهيبها، اضطرت قوات الحلفاء إلى التقهقر عقب هزيمتها الشهير في موقعة "مونز". ولما أخذت طائرات الألمان تطارد قوات الحلفاء الهاربة، وتمطرها بوابل من القنابل المدمرة، لم يكن أمام إحدى فرق الحلفاء إلا أن تلتجئ إلى مدينة قريبة؛ فعبرت الميدان الرئيسي واحتلت مبنى رئاسة هذه المدينة وحوّلته إلى مستشفى لجرحى الحرب. وحيث أنه لم تكن هناك أية أسّرة أو حجرة عمليات أو أية آلات جراحية أو أدوية؛ افترش الجرحى والمصابون طرقات المبنى وغرفه، وكانت حالة الكثيرين منهم سيئة والبعض كانوا على حافة الموت.
وبجوار الباب كان "ديفيد" يرقد، و"ديفيد" هذا هو جندي في الرابعة والعشرين من عمره كان يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي إحدى ممرضات هيئة الصليب الأحمر الدولية، وكانت الدماء تنزف من جنبه بغزارة. ولكن ما أذهل الممرضة أن أنين الألم كان يختلط بصوت ترانيم شجية كان يرنمها "ديفيد"، وكانت كلها تتحدث عن السماء، وأنه كلما كان وجهه يزداد اصفرارًا كان يزداد ابتسامًا. وازداد تعجب الممرضة جدًا حينما رأته بعد ذلك يجهش في بكاء عظيم .. حينئذٍ سألته عن سر التحول من الترنيم والتعزية رغم الآلام والنزيف إلى هذا البكاء العنيف. فقال لها:
- «أن مؤمن مفديّ ومُطهر بدم الحمل؛ الرب يسوع، الذي جُرح بل مات لأجلي وقام» (إشعياء 5:53)، وأفرح لأن لي اشتهاء أن أكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا (فيلبي 23:1).
- «إذًا لماذا أخذت تبكي فجأة؟»
قال لها وهو يحاول أن يكفكف دموعه:
- «أبكي على زملائي .. فإني أعلم أنهم لم يُعطوا حياتهم للرب يسوع ولم يغتسلوا بدمه .. فإن ماتوا هكذا سيذهبون إلى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان».
ثم سألها:
- «وأنتِ يا عزيزتي، هل قبلت المسيح؟»
أجابته:
- «كلا».
صمت "ديفيد" قليلاً ثم قال لها:
- «وهل تظنين أن الألمان سيلقون قنابلهم على هذا المبنى؟»
ابتسمت المُمرضة وهي تخفي اضطرابها، وفي ذات الوقت دَهْشَتها من السلام العجيب الذي يتمتع به "ديفيد"، وقالت:
- «كُن مطمئنًا .. خُذ هذا الدواء فإنه سيقويك ويطمئنك».
أجابها:
- «ألم أقل لكِ إني في سلام؟ لكني أفكر في مصير زملائي وقادتي، وأنت التاعبة معي».
فأجابت الممرضة:
- «وماذا نستطيع أن نعمل؟»
قال:
- «لو أننا رفعنا راية الصليب الأحمر فوق هذا المبنى فإنهم لن يصوبوا قنابلهم نحوه، لأن الاتفاقات الدولية تمنع ذلك» ..
خرجت الممرضة وعادت بعد فترة قصيرة وقالت له:
- «هناك سارية فوق المبنى ويوجد أيضًا حبل؛ ولكني فتشت عن راية للصليب الأحمر فلم أجد».
قال لها "ديفيد":
- «إن الوقت يمضي سريعًا ينبغي أن نعمل شيئًا قبل فوات الفرصة، خذي ملابسي البيضاء هذه ..».
ثم خلعها عنه وقال:
- «أعطيني سريعًا قطعة من الشاش»!
فلما أعطته وضعها في جنبه الجريح، واحتمل الألم الرهيب حتى صارت هذه الشاشة متشبعة تمامًا بدماه؛ وأعطاها لها قائلاً:
- «ارسمي بهذا الدم صليبًا كبيرًا يكفي لأن تراه الطائرات .. أسرعي .. لا تترددي».
نفذت الممرضة أمر "ديفيد" سريعًا، ورفعت الراية فوق المبنى، ولما رجعت وجدت "ديفيد" وقد فارق الحياة. وفي الحال تذكرت القصة التي حكتها لها جدتها .. كيف أن يسوع المسيح ضحى بدمه لأجلنا وكيف طُعن في جنبه وللوقت خرج دم وماء (يوحنا 34:19). فركعت أمام جثة "ديفيد" الذي رقد في سلام، وطلبت من المسيح أن يخلصها من خطاياها في هذه اللحظات. واختلطت دموع عينيها مع دماء "ديفيد"، مع أفراح السماء بخاطئ واحد يتوب، وصارت مؤمنة خادمة شاهدة للرب.
جاءت فعلاً طائرات الألمان، وألقت قنابلها على كل المباني المجاورة ما عدا هذا المبنى، وهكذا نجا الجرحى والذين كانوا على وشك أن يموتوا موتًا محققًا، في ظل راية الصليب الأحمر المرسوم بدماء "ديفيد".
قَبِلَ كثير من الجنود المسيح؛ إذ أن ما عمله "ديفيد" كان صورة مصغرة جدًا لما عمله الرب يسوع حينما سَفَكَ دماه لأجلنا على الصليب لننجو نحن، لا من الموت الجسدي فقط بل من الموت الروحي والأبدي في الجحيم.
صديقي .. صديقتي، إن دماء "ديفيد" وملابسه التي صنعت راية الصليب الأحمر، نجّت هؤلاء الجنود والضباط والممرضين والأطباء فقط. أما دم يسوع فلا زال على مر السنين ينجي كل من يحتمي فيه، وقد كان الرمز إليه في القديم: {أرى الدم وأعبر عنكم} (خروج 13:12). فهل تأتي الآن إلى الصليب، بل إلى المصلوب، وتصلي معي ومع تلك الممرضة وأنت تقرأ هذه الكلمات؟
صلاة: يا من سفكت الدماء  لتصنع لي الفداء،  اغسلني فأكون في نقاء  ولأنتظرك آتيًا من السماء  فدمك لكل خطاياي دواء ..  آمين.
زكريا استاورو