في الغالب أنت سمعت أو قرأت عن حرب "فيتنام" الشهيرة التي استمرت 8 أعوام. ففي عام 1965م وصلت أعداد كبيرة من القوات الأمريكية إلى هناك، وانتهت الحرب الرهيبة في 27 كانون الثاني يناير1973م بمعاهدت سلام بين الولايات المتحدة والقوات الفيتنامية المحاربة. وفي 30 ابريل 1975م تم توحيد "فيتنام".
ويقول أغلب المؤرخين أن خسائر هذه الحرب الضروس من الفيتناميين خلال سنوات الحرب الثماني كانت مليونا قتيل وثلاثة ملايين جريح، وما يناهز 12 مليون لاجئ. أما الأمريكيون فقدرت خسائرهم بـ 58 ألف قتيل و 153303 من الجرحى، 587 أسيرًا بين مدني وعسكري. وقد تم إطلاق سراحهم.
وأخير انتهت الخدمة الإلزامية العسكرية "لديفيد" في "فيتنام" واقترب موعد عودته لبيته في "سان فرانسيسكو" بولاية كاليفورنيا الأمريكية, وكم كانت سعادة الأب والأم وهما يتلقيان مكالمة التليفونية من "ديفيد" حيث قال لهما: «سأعود عن قريب»، ففرحا جدًا وتحدثا معه عن أشواقهما الحارة إليه وكيف مرت الأيام بطيئة ممله بدونه، وكيف كانا أغلب وقتهما يتصفحان الجرائد ويستمعان للراديو ويشاهدان التليفزيون لمعرفة أخبار الحرب, وعندها قال "ديفيد" لأبويه:
- «بابا .. ماما، هناك موضوع أريد أن أناقشكم فيه قبل عودتي للبيت» فرحَّب الأبوان. فاردف قائلاً:
- «أريد أن أُحضر معي للبيت زميلي الجندي الذي قضيت معه أغلب الوقت في ساحة المعركة في فيتنام». رد الأبوان قائلين:
- «نعم يا حبيبي، لا بد أن يجيء معك، نحن نرحب به ونتمنى أن نراه معك». أردف ديفيد قائلا:
- «بابا .. ماما، ولكن من اللازم أن أخبركما أن زميلي قد جُرح في المعركة وفَقَدَ رِجله وأيضا ذراعه، وليس له مكان آخر يذهب إليه، وأنا اريده أن يأتيَ ليعيش معنا بصفة دائمة».
صمت التليفون لحظات مرت على ديفيد كالدهر، فقال لأبيه:
- «ماذ قلتَ يا أبي؟ لماذا لا ترد عليَّ؟ لماذا صمتَّ ولا أسمع منك؟». فقال الأب متلعثما، وقد لاحظ "ديفيد" تغير صوت أبيه:
- «ديفيد يا إبني، ليحضر معك، وأنا سأبحث له عن مكان آخر يعيش فيه. أنت تعرف أن لنا حياتنا الخاصة. إن إنسان معاق مثل هذا سيكون ثقلاً رهيبًا وحملاً شديدًا على الأسرة لن نطيق احتماله. أقول لك يا "ديفيد" بصراحة: تعالَ ودَعَك من هذا الجريح، اتركه لحاله ليدبر أموره. يكفينا ما فينا، تعال أنت بمفردك»
عند هذه الكلمة وضع "ديفيد" سماعة التليفون، ولم يسمع منه أبواه أي كلام آخر. وبعد عدة أيام تلقى الأبوان من بوليس مدينة "سان فرانسيسكو" مكالمة تليفونية يخبرهما فيها البوليس أن "ديفيد" ابنهما قد مات إذ سقط من مكان عال، وأن البوليس يعتقد أنه انتحر.
هُرِع الأبوان بكل حزن وهلع لمشرحة المدينة للتعرف على جثة "ديفيد"، ولما تعرفا على جثته كانت المفاجأة المرة لهما أنه كان قد فقد ذراعه ورجله. وعندها فهم الأب والأم أن "ديفيد" لم يكن يتحدث في التليفون عن صديقه الجريح والمعاق، ولكنه كان يتحدث عن نفسه وكان يريد أن يعلم هل سيكون ثقلاً على الأسرة؟ وهل سيقبل الأب والأم وجوده معهم في البيت رغم العجر والإعاقة التي حدثت له؟!
صديقي .. صديقتي، لقد شك "ديفيد" في قبول أحن من له في الحياة؛ أبيه وأمه. شك في حبهم له بسبب الإعاقة التي ألمَت به. أعلم انك تشاركني في أن شك "ديفيد" لم يكن في محله حينما سأل أبواه عن قبول صديقه في البيت, فمحبة الأب والأم تختلف عن محبتهم لضيف غريب، ولكن على أيه حال ما أن علم "ديفيد" أن الأب والأم لا يحتملان معاق معهم في المنزل، حتى يئس من الحياة، بل وانتحر.
لكن دعني عزيزي القاريء .. عزيزتي القارئة، أؤكد لك أن محبة الله لك تتعالى وتتسامى جدًا عن محبة الأب والأم كما هو مكتوب: {هَلْ تَنْسَى الْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلاَ تَرْحَمَ ابْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هَؤُلاَءِ يَنْسِينَ وَأَنَا لاَ أَنْسَاكِ} (إشعياء49: 15). إن محبة الله لا سببيه ولا غرضية؛ ليست لأجل شيء حسن فينا، لكن لأن {الله محبة} (1يوحنا4: 8). يقول لشعبه القديم: {ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَل مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُم} (تثنية7: 7).
إن محبة الله لنا هي بالرغم مما فينا كما هو مكتوب: {أَنَا أَشْفِي ارْتِدَادَهُمْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً} (هوشع14: 4). أنظر كيف أحبنا الله رغم كل ما فينا! (رومية5: 1-12):
1- كنا ضعفاء (أي عاجزين): {مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا. لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَين} (رومية5: 5) عجز الخطية أكثر من عجز الجسد الذي كان يعاني منه "ديفيد".
2- كنا فجار: {الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ}.
3- كنا خطاة: {وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا} (رومية5: 8)
4- كنا أعداء: {لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ} (رومية5: 9)
5- كنا أموات: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ} (رومية5: 12)
ضعفاء وعاجزين - فجار ومتعدِّين - خطاة مذنبين - أعداء رافضين - أموات هالكين .. {لكن اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا .. مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا}. لهذا فمحبة الله لي ولك ليست لشيء صالـح فينا، ولكن بالرغم من كل ما فينا من عيوب.
هو أحبني بالرغم من ..، فهل تأتي بين أحضان الآب المحب ولا تكون مثل "ديفيد" الذي قاده إبليس للانتحار تحت وطأة الشعور بالنقص والعجز؟ وعندما شك في قبول أبويه له؟ هل تصلي معي الآن واثقًا في حب الله لك؟
صلاة: يا إلهي الطيب يا نبع كل الحنان .. أحببتني رغم أني أشر إنسان .. آتي إليك فأنت تنتظرني في كل أوان .. فارحمني واقبلني وحررني من كل قيود وأحزان وفرحني ومتعني بك وبالغفران آمين
زكريا استاورو |