تأثرت جدًا وأنا أقرأ مذكرات جندي مسيحي في حرب أكتوبر الشهيرة سنة 1973م، وليس المؤثر فقط في هذه المذكرات ما ذكره صاحبها عن الحروب وويلاتها، ولكن أيضا للدروس العظيمة المستفادة من خلال هذه المذكرات. وسأذكر لك بعض مقتطفات منها:
كنت في السابعة والعشرين من عمري، وبعد حفل زواجي بثلاثة أشهر فقط كانت مفاجأة الحرب. ولقد كنت من الجنود الذين عبروا قناة السويس يوم السادس من أكتوبر عام 1973م , كانت الحرب شديدة ورأيت من حولي القتلى في كل ناحية, من فوقنا طائرات الأعداء تُسقط علينا القنابل والمتفجرات الناسفة، ومن تحتنا الألغام الخطيرة بكل أنواعها, كانت أيامًا عصيبة بالحق لا يعرف هولها إلا الذين مروا فيها واختبروها.
في يوم السادس عشر من أكتوبر 1973م أُصبت بشظية كبيرة في فخذي الأيمن، وكانت الآلام رهيبة، وصرخت أطلب الاستغاثة والمعونة, كان زميلي الجندي "عيد" بالقرب مني, حاول "عيد" مساعدتي ورفع رجلي إلى أعلى وربط فخذي ما فوق الأصابة, وظللنا في مكاننا دون أن نتحرك لأن القذف فوقنا وحولنا كان شديدًا جدًا فقد كنا هدفًا مباشرا للعدو.
بعد أن هدأ القذف قليلاً، حملتني سيارة إلى شاطيء القناة الشرقي، وكانت دمائي تملأ السيارة، والنزيف يتساقط حتى في الطرق التي تسلكها العربة، إلى أن وضعونا في قارب صغير وكان عددنا أكبر من العدد المسموح به في القارب، ومع أن الكل كان يعاني من الإصابات والإعياء، إلا أننا بذلنا جهدًا كبيرًا في أن نُخرج المياه التي غطت القارب واختلطت بالدماء، وكان كل منا يستخدم خوذته لإخراج الماء من القارب، وبمعجزة إلهية وصلنا للضفة الغربية من القناة.
ركبنا سيارة أخرى حملتنا إلى مستشفى "القصاصين" بالقاهرة، وهناك كانت أعداد هائلة من المصابين حيث ملأ المصابون ساحات المستشفى والطرقات وحتى مساحات الأراضي المزروعة بالنجيل حول المستشفى, وبعد الكشف عليَّ، أخبرني الأطباء أن الشظية دخلت من جانب وخرجت من الجانب الآخر وأن حالتي مستقرة رغم النزيف والألم الرهيب.
جاء القرار بأن نستكمل علاجنا, كل مصاب في كتيبته في الناحية الغربية من القناة في الأماكن التي كنا فيها قبل العبور. أخذتني سيارة إسعاف مع البعض من زملائي الجنود الجرحى لنعود إلى كتائبنا, كان الألم شديدًا جدًا حتى أنني من تأثير الألم توقعت أنني تجاوزت المكان الذي كنت أنوي النزول فيه للوصول إلى كتيبتي، فناديت السائق:
- «توقف هنا، توقف هنا بسرعة. لقد مر الموقع الذي أريد النزول فيه»
وأخيرا توقف السائق. وبصعوبة بالغة نزلت من السيارة وتحركَت سيارة الإسعاف وتركتني!
بعد أن تحركت سيارة الإسعاف ودققت النظر في الموقع الذي نزلت فيه اكتشفت أنني نزلت قبل موقع كتيبتي بثلاثة كيلو مترات .. آه .. ثلاثة كيلو مترات! كيف أستطيع أنا الجريح أن أمشي ثلاثة كيلومترات؟! أنا لا أستطيع أن أمشي ثلاث خطوات بسبب الإصابة الشديدة التي أعاني منها! وعندها رفعت بصري للسماء وكنت أبكي كطفل صغير بكاءً شديدًا لم أبكه منذ طفولتي، ولا حتى أتذكر أني بكيته بهذه المرارة وأنا طفل! وعاتبت الله قائلا:
- «لماذا تركتني هكذا، هل نسيتني كل النسيان؟»
وبينما أنا أبكي هكذا وأنا منهار، ودموعي تجري كالأنهار، وأنا أحدق النظر في سيارة الإسعاف علَّها تتوقف قريبًا، إذ بي أرى ما لم تصدقه عيني؛ لقد رأيت السيارة تحترق .. تشتعل فيها النيران .. تحتجب خلف دخان كثيف، ثم تختفي تمامًا، ويختفي راكبوها إلى الأبد! لقد أصابتها نيران القوات التي تسللت من الثغرة وأبادتها تمامًا.
والآن وبعد مرور حوالي 44 سنة على هذه الحرب أفهم كل يوم ما تعنيه الآية العظيمة: {وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ} (رومية8: 28).
صديقي القاريء .. صديقتي القارئة، لاحظ كلمة {معًا} .. {وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ}, هذه المذكرات ذكَّرَتني بما عمله أحد الفنانين العظماء بينما كان يرسم أحد لوحاته, كان يستخدم اللون الأسود ويرسم كل شيء باللون الأسود: البيت والطريق وظلال الأشجار .. وكان كل من يرى اللوحة قبل اكتمالها يظن أنها ستكون أكثر لوحة مليئة بالتشاؤم والحزن يرسمها هذا الفنان. ولكن قبل أن يكمل الفنان لوحته مباشرة، وضع الفرشاة في اللون القرنفلي pink color ووضعه على شبابيك البيت، فصارت لوحة الرجاء والامل!
نعم .. وسط ظلام كل شيء ينبعث الأمل والرجاء من هذا البيت.
عزيزي القاريء .. عزيزتي القارئة، {.. أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ}، لقد كان الجزء الحزين من قصة الجندي أن تُنزله سيارة الإسعاف قبل المكان بثلاثة كيلو مترات وهو جريح، ولكن هذا مع احتراق عربة الإسعاف بعد ثوانٍ معدودة، وقبل أن تصل لمكان كتيبة هذا الجندي، عملا معًا للخير لاستبقاء حياته!
هكذا نرى في قصة "يوسف" الذي قال لإخوته عن مجمل الآلام والسجن والعبودية التي تعرض لها سنين طويلة ومرة: {وَالآنَ لاَ تَتَأَسَّفُوا وَلاَ تَغْتَاظُوا لأَنَّكُمْ بِعْتُمُونِي إِلَى هُنَا، لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ} (تكوين45: 5) {اَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا} (تكوين50: 20)
أخاف أن تكون أعذارك لعدم التوبة وقبول المسيح مخلصًا لك، مركزة على الظروف الصعبة المحيطة بك، لكن تذكر عزيزي, {أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ} (رومية2: 1) {وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ} فهل تأتي الآن للمسيح مصليا؟
صلاة: يا ربي يسوع يا من احببتني حتى الموت .. أعلم أن كل ما ستجيزني فيه سيعمل معًا للخير إن كنت بين يديك, لهذا أسلمك دفة حياتي فامتلكني بالكامل لأعيش في ملء مشيئتك آمين
زكريا استاورو |